فصل: فصل: الإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: الوحي والإلهام:

قال: وهو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: نبأ يقع وحيا قاطعا مقرونا بسماع إذ مطلق النبأ الخبر الذي له شأن فليس كل خبر نبأ وهو نبأ خبر عن غيب معظم. ويريد بالوحي والإلهام: الإعلام الذي يقطع من وصل إليه بموجبه إما بواسطة سمع أو هو الإعلام بلا واسطة.
قلت: أما حصوله بواسطة سمع فليس ذلك إلهاما بل هو من قبيل الخطاب وهذا يستحيل حصوله لغير الأنبياء وهو الذي خص به موسى إذ كان المخاطب هو الحق عز وجل.
وأما ما يقع لكثير من أرباب الرياضات من سماع: فهو من أحد وجوه ثلاثة لا رابع لها أعلاها أن يخاطبه الملك خطابا جزئيا فإن هذا يقع لغير الأنبياء فقد كانت الملائكة تخاطب عمران بن حصين بالسلام فلما اكتوى تركت خطابه فلما ترك الكي عاد إليه خطاب ملكي وهو نوعان.
أحدها: خطاب يسمعه بأذنه وهو نادر بالنسبة إلى عموم المؤمنين.
والثاني: خطاب يلقى في قلبه يخاطب به الملك روحه كما في الحديث المشهور: «إن للملك لمّة بقلب ابن آدم وللشيطان لمة فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد» ثم قرأ [2: 268]: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} وقال تعالى: [8: 12]: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}.
قيل في تفسيرها: قوّوا قلوبهم وبشروهم بالنصر وقيل: احضروا معهم القتال والقولان حق فإنهم حضروا معهم القتال وثبتوا قلوبهم.
ومن هذا الخطاب: واعظ الله عز وجل في قلوب عباده المؤمنين كما في جامع الترمذي ومسند أحمد من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ضرب مثلا: صراطا مستقيما وعلى كنفتي الصراط سوران لهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وداع يدعو على رأس الصراط وداع يدعو فوق الصراط فالصراط المستقيم الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله فلا يقع أحد في حد من حدود الله حتى يكشف الستر والداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن» فهذا الواعظ في قلوب المؤمنين هو الإلهام الإلهي بواسطة الملائكة. وأما وقوعه بغير واسطة فمما لم يتبين بعد والجزم فيه بنفي أو إثبات موقوف على الدليل والله أعلم.

.النوع الثاني من الخطاب المسموع: خطاب الهواتف من الجان:

وقد يكون المخاطب جنيا مؤمنا صالحا وقد يكون شيطانا وهذا أيضا نوعان.
أحدهما: أن يخاطبه خطابا يسمعه بأذنه.
والثاني: أن يلقى في قلبه عند ما يلمّ به ومنه وعده وتمنيته حين يعد الإنسى ويمنّيه ويأمره وينهاه كما قال تعالى: [4: 120]: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} وقال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} وللقلب من هذا الخطاب نصيب وللأذن أيضا منه نصيب والعصمة منتفية إلا عن الرسل ومجموع الأمة.
فمن أين للمخاطب أن هذا الخطاب رحماني أو ملكي؟ بأي برهان؟ أو بأي دليل؟ والشيطان يقذف في النفس وحيه ويلقى في السمع خطابه فيقول المغرور المخدوع قيل لي وخوطبت صدقت لكن الشأن في القائل لك والمخاطب وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لغيلان بن سلمة وهو من الصحابة لما طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك فمن يأمن القراء بعدك يا شهر؟

.النوع الثالث: خطاب حالي تكون بدايته من النفس وعوده إليها فيتوهمه من خارج وإنما هو من نفسه منها بدا وإليها يعود:

وهذا كثيرا ما يعرض للسالك فيغلط فيه ويعتقد أنه خطاب من الله كلمه به منه إليه وسبب غلطه: أن اللطيفة المدركة من الإنسان إذا صفت بالرياضة وانقطعت علقها عن الشواغل الكثيفة: صار الحكم لها بحكم استيلاء الروح والقلب على البدن ومصير الحكم لهما فتنصرف عناية النفس والقلب إلى تجريد المعاني التي هي متصلة بهما وتشتد عناية الروح بها وتصير في محل تلك العلائق والشواغل فتملأ القلب فتصرف تلك المعاني إلى المنطق والخطاب القلبي الروحي بحكم العادة ويتفق تجرد الروح فتتشكل تلك المعاني للقوة السامعة بشكل الأصوات المسموعة وللقوة الباصرة بشكل الأشخاص المرئية فيرى صورها ويسمع الخطاب وكله في نفسه ليس في الخارج منه شيء ويحلف أنه رأى وسمع وصدق لكن رأى وسمع في الخارج أو في نفسه؟ ويتفق ضعف التمييز وقلة العلم واستيلاء تلك المعاني على الروح وتجردها عن الشواغل.
فهذه الوجوه الثلاثة هي وجوه الخطاب ومن سمع نفسه غيرها فإنما هو غرور وخدع وتلبيس وهذا الموضع مقطع القول وهو من أجل المواضع لمن حققه وفهمه والله الموفق للصواب.

.فصل: الإلهام الذي يقع عيانا وعلامة صحته:

قال: الدرجة الثانية: إلهام يقع عيانا وعلامة صحته أنه لا يخرق سترا ولا يجاوز حدا ولا يخطئ أبدا.
الفرق بين هذا وبين الإلهام في الدرجة الأولى أن ذلك علم شبيه بالضروري الذي لا يمكن دفعه عن القلب وهذا معاينة ومكاشفة فهو فوقه في الدرجة وأتم منه ظهورا ونسبته إلى القلب نسبة المرئي إلى العين وذكر له ثلاث علامات.
إحداها أنه لا يخرق سترا أي صاحبه إذا كوشف بحال غير المستور عنه لا يخرق ستره ويكشفه خيرا كان أو شرا أو أنه لا يخرق ما ستره الله من نفسه عن الناس بل يستر نفسه ويستر من كوشف بحاله.
الثانية أنه لا يجاوز حدا يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه لا يتجاوز به إلى ارتكاب المعاصي وتجاوز حدود الله مثل الكهان وأصحاب الكشف الشيطاني.
الثاني: أنه لا يقع على خلاف الحدود الشرعية مثل أن يتجسس به على العورات التي نهى الله عن التجسس عليها وتتبعها فإذا تتبعها وقع عليها بهذا الكشف فهو شيطاني لا رحماني.
الثالثة: أنه لا يخطئ أبدا بخلاف الشيطاني فإن خطأه كثير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صائد: «ما ترى؟ قال: أرى صادقا وكاذبا فقال: لبّس عليك» فالكشف الشيطاني لابد أن يكذب ولا يستمر صدقه ألبتة.

.فصل: الإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها:

قال: الدرجة الثالثة: إلهام يجلو عين التحقيق صرفا وينطق عن عين الأزل محضا والإلهام غاية تمتنع الإشارة إليها.
عين التحقيق عنده: هي الفناء في شهود الحقيقة بحيث يضمحل كل ما سواها في ذلك الشهود وتعود الرسوم أعداما محضة فالإلهام في هذه الدرجة يجلو هذا العين للملهم صرفا بحيث لا يمازجها شيء من إدراك العقول ولا الحواس فإن كان هناك إدراك عقلي أو حسي لم يتمحض جلاء عين الحقيقة والناطق عن هذا الكشف عندهم: لا يفهم عنه إلا من هو معه ومشارك له وعند أرباب هذا الكشف: أن كل الخلق عنه في حجاب وعندهم: أن العلم والعقل والحال حجب عليه وأن خطاب الخلق إنما يكون على لسان الحجاب وأنهم لا يفهمون لغة ما وراء الحجاب من المعنى المحجوب فلذلك تمتنع الإشارة إليه والعبارة عنه فإن الإشارة والعبارة إنما يتعلقان بالمحسوس والمعقول وهذا أمر وراء الحس والعقل.
وحاصل هذا الإلهام: أنه إلهام ترتفع معه الوسائط وتضمحل وتعدم لكن في الشهود لا في الوجود وأما الاتحادية القائلون بوحدة الوجود: فإنهم يجعلون ذلك اضمحلالا وعدما في الوجود ويجعلون صاحب المنازل منهم وهو برئ منهم عقلا ودينا وحالا ومعرفة والله أعلم.

.فصل: في الهداية:

المرتبة العاشرة من مراتب الهداية: الرؤيا الصادقة وهي من أجزاء النبوة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
وقد قيل في سبب هذا التخصيص المذكور: إن أول مبتدأ الوحي كان هو الرؤيا الصادقة وذلك نصف سنة ثم انتقل إلى وحي اليقظة مدة ثلاث وعشرين سنة من حين بعث إلى أن توفي صلوات الله وسلامه عليه فنسبة مدة الوحي في المنام من ذلك جزء من ستة وأربعين جزءا وهذا حسن لولا ما جاء في الرواية الأخرى الصحيحة: «إنها جزء من سبعين جزءا».
وقد قيل في الجمع بينهما إن ذلك بحسب حال الرائي فإن رؤيا الصديقين من ستة وأربعين ورؤيا عموم المؤمنين الصادقة من سبعين والله أعلم.
والرؤيا: مبدأ الوحي وصدقها بحسب صدق الرائي وأصدق الناس رؤيا أصدقهم حديثا وهي عند اقتراب الزمان لا تكاد تخطئ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لبعد العهد بالنبوة وآثارها فيتعوض المؤمنون بالرؤيا وأما في زمن قوة نور النبوة ففي ظهور نورها وقوته ما يغني عن الرؤيا.
ونظير هذا الكرامات التي ظهرت بعد عصر الصحابة ولم تظهر عليهم لاستغنائهم عنها بقوة إيمانهم واحتياج من بعدهم إليها لضعف إيمانهم وقد نص أحمد على هذا المعنى وقال عبادة بن الصامت: «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام» وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم يبق من النبوة إلا المبشرات قيل: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» وإذا تواطأت رؤيا المسلمين لم تكذب وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما أروا ليلة القدر في العشر الأواخر قال: «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فمن كان منكم متحريها فليتحرها في العشر الأواخر من رمضان».
والرؤيا كالكشف منها رحماني ومنها نفساني ومنها شيطاني وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا ثلاثة: رؤيا من الله ورؤيا تحزين من الشيطان ورؤيا مما يحدث به الرجل نفسه في اليقظة فيراه في المنام».
والذي هو من أسباب الهداية هو الرؤيا التي من الله خاصة.
ورؤيا الأنبياء وحي فإنها معصومة من الشيطان وهذا باتفاق الأمة ولهذا أقدم الخليل على ذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام بالرؤيا.
وأما رؤيا غيرهم: فتعرض على الوحي الصريح فإن وافقته وإلا لم يعمل بها فإن قيل فما تقولون إذا كانت رؤيا صادقة أو تواطأت؟
قلنا: متى كانت كذلك استحال مخالفتها للوحي بل لا تكون إلا مطابقة له منبهة عليه أو منبهة على اندراج قضية خاصة في حكمه لم يعرف الرائي اندراجها فيه فيتنبه بالرؤيا على ذلك ومن أراد أن تصدق رؤياه فليتحر الصدق وأكل الحلال والمحافظة على الأمر والنهي ولينم على طهارة كاملة مستقبل القبلة ويذكر الله حتى تغلبه عيناه فإن رؤياه لا تكاد تكذب ألبتة.
وأصدق الرؤيا: رؤيا الأسحار فإنه وقت النزول الإلهي واقتراب الرحمة والمغفرة وسكون الشياطين وعكسه رؤيا العتمة عند انتشار الشياطين والأرواح الشيطانية وقال عبادة بن الصامت رضي الله عنه «رؤيا المؤمن كلام يكلم به الرب عبده في المنام».
وللرؤيا ملك موكل بها يريها العبد في أمثال تناسبه وتشاكله فيضربها لكل أحد بحسبه وقال مالك: الرؤيا من الوحي وحى وزجر عن تفسيرها بلا علم وقال: أتتلاعب بوحي الله؟.
ولذكر الرؤيا وأحكامها وتفاصيلها وطرق تأويلها مظان مخصوصة بها يخرجنا ذكرها عن المقصود والله أعلم.

.فصل: في بيان اشتمال الفاتحة على الشفاءين: شفاء القلوب وشفاء الأبدان:

فأما اشتمالها على شفاء القلوب: فإنها اشتملت عليه أتم اشتمال فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد.